من صنعاء إلى إسطنبول يبقى اليمن محطة إلهام الأولى والأخيرة

من صنعاء إلى إسطنبول يبقى اليمن محطة إلهام الأولى والأخيرة

قبل قرابة 34 سنة، غربي اليمن، ليس بعيدًا جدًا عن البحر الأحمر، في محافظة تدعى ريمة عرفت بوعرة تضاريسها وطيبة أهلها، ولدت إلهام.

تستقبل زائرها في مكتبها ضمن مبنى المحطة التلفزيونية التي تعمل فيها بمدينة إسطنبول، مرتدية لباسًا تقليديًا أنيقًا، مبتسمة، تسير بخطوات سريعة لتدله على أقسام المبنى واستعمالاته.

إلهام الوسطى في عائلة مكون من 3 بنات و4 صبيان بالإضافة إلى الوالدين، حصلت دراستها الأولى في صنعاء التي انتقلت إليها صغيرة رفقة عائلتها حيث عاشت ودرست حتى مغادرتها وطنها، انتقال فرضه عمل والدها في الجيش اليمني.

كانت مدرستها، مدرسة خالد بن الوليد، مختلطة، الأمر غير الشائع بشكل كبير حينها في صنعاء وخارجها، "مدرسة جيدة" كما تصفها، زاد من ايجابياتها أنها كانت مدرسة أخيها أيضًا ما سهل عليها انتقالها اليومي، وعدم شعورها بأنها في مكان غريب عنها تمامًا. "منحتني المدرسة المختلطة فرصة كسر حاجز الخجل الفطري"، فكونت صداقات بريئة مع الجنسين في المدرسة الأمر الذي ساعدها لاحقًا بشكل كبير، تفكر: "إن رزقني الله أطفالًا يومًا ما سأحرص على إدخالهم مدرسة مختلطة ليستفيدوا مثلي، أخواتي درسن في مدرسة للبنات ما انعكس عليهن سلبًا في المستقبل".

منحتني المدرسة المختلطة فرصة كسر حاجز الخجل الفطري.. إن رزقني الله أطفالًا يومًا ما سأحرص على إدخالهم مدرسة مختلطة ليستفيدوا مثلي، أخواتي درسن في مدرسة للبنات ما انعكس عليهن سلبًا في المستقبل

منذ صغرها كانت ميولها إلى المواد التي تعرف بالأدبية، لا تلك العلمية المرتبطة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، وحلمت منذ المرحلة الإعدادية بأن تتخصص في العمل الإعلامي، مجال أحبته بعفوية طفلة ومراهقة، وترجمته من خلال نشاطها في الإذاعة المدرسية وبعض الأنشطة الأخرى الشبيهة.

أنهت المدرسة بنجاح وحان وقت الجامعة. لم يكن أمر دخولها محل موافقة العائلة الكبيرة. الأخوال رفضوا ذلك، هم سمحوا بدخول بناتهم المدرسة حتى الصف السادس فقط، لم تبق أم إلهام، الأمية التي بذلت جهدًا شخصيًا في عمر متقدم لهزم أميتها والتعلم، مكتوفة الأيدي، وقفت إلى جانب ابنتها وحرصت مع والدها على أن تكمل ابنتهما تعليمها في الاختصاص الذي تحب مهما كان من موقف هذا أو ذاك من أقارب العائلة.

في كلية الإعلام بجامعة صنعاء كان هناك بطبيعة الحال أساتذة من أصحاب النظرة القاصرة تجاه دراسة الشابات وعملهن، ولكن كان هناك في المقابل أساتذة مشجعين تركوا أثرًا في نفس إلهام وساعدوا في دفع مسيرتهم الجامعية قدمًا، فحصلت مواد إعلامية عمومية في السنتين الأولين ثم تخصصت في الإذاعة والتلفزيون.

على الرغم من جودة المناهج إلا أنها لا تنكر ضعف الجانب التطبيقي في اختصاص يعتمد على التطبيق العملي بقدر المعرفة النظرية، ما قد يوصلها إلى التخرج مزودة بشهادة وعلوم نظرية دون معرفة عملية تليق بخريجة كلية إعلام، الأمر الذي دفعها منذ سنوات الجامعة الأولى إلى العمل التطوعي لاكتساب الخبرة في صحف محلية، فنفذت لهم تقارير واستطلاعات تحت إشراف صحفيين مخضرمين، ولم توفر دورة أو ندوة لمحطات عربية عرفت بتقدم مستواها الإعلامي دون أن تنخرط فيها.

تخرجت في عمر الـ 23 مع مظهر خارجي يوحي بأنها أصغر من ذلك بكثير، وأحبت العمل في مجالها فتقدمت لوظيفة مراسلة في المحطة التلفزيونية الوحيدة حينها، قناة حكومية، ليأتيها جواب مزعج ومباشر: "وجهك لا ينفع للشاشة، يبدو طفوليًا". وبهذا تغيرت وجهة عمل الشابة المتخرجة حديثًا.

حاولت لمرة أخيرة العمل في صحيفة أو إذاعة، لكن رغبتها في البقاء ضمن مجال دراستها لم يسمح لها بقبول أجواء عمل لم تراها محترفة أو مريحة نفسيًا كما تحب أن يكون، فوجدت فرصتها في العمل ضمن منظمات المجتمع المدني.

وظائفها الأولى كانت إعلامية: منسقة إعلامية ومحررة، ثم دخلت شيئًا فشيئًا إلى مجال المشاريع التنموية ودورات التدريب والتأهيل، كما لم تقصر في العمل كمحاسبة وسكرتيرة -حين اضطر الأمر- للحفاظ على استقلالها المادي وتقديم بعض الدعم لأهلها، "كلها أعمال ووظائف ساعدتني على تقوية شخصيتي واكتساب خبرة لا بد منها".

على الرغم من عدم مشاركتها في أحداثها واكتفائها بالمراقبة عن بعد، تعتبر إلهام ثورة 11 فبراير محطة فاصلة، كانت لديها ثورتها الخاصة من خلال العمل على دعم الشباب وتمكينهم، لكنها تابعت شباب الثورة وكتبت عنهم مؤمنة بأفكارهم.

ثورة 11 فبراير أفرزت محطة تلفزيونية تدعى "يمن شباب"، مرتبطة بالثورة، ذهبت إليهم لتطلب رعايتهم لأحد مشاريع المنظمة التي تعمل فيها وقتها، الأمر الذي كان وتطلب أسابيع من العمل والتنسيق، فانتهى بتقديم عرض عمل في المحطة إلى إلهام بعد أن علم مدير البرامج أنها متخصصة في الإعلام، عارضًا مساعدته لها لتكون معدة لبرنامج شبابي.

أطلعت على البرنامج وأبدت ملاحظاتها بشأنه فأخذوا بها، وبدأت عملها كمعدة ليومين في الأسبوع مع الاحتفاظ بعملها السابق، ومع تمايزها على صعيد التوجهات الفكرية أو السياسية عن هذا المحطة أو تلك حيثما عملت.

بمرور الوقت والشعور بالارتياح إلى جو العمل و"السقف العالي" المعطى لها شعرت أنها وصلت إلى المكان المناسب، فتركت العمل في المنظمة لتتفرغ للعمل في يمن شباب.

حدث ما حدث سنة 2015 من انقلاب وسيطرة للحوثيين وإغلاقهم للقناة التي انتقلت مع جزء صغير من الموظفين إلى إسطنبول، فبقيت دون عمل لستة أشهر، ثم وجهت طاقاتها إلى العمل الخيري رفقة صديقة لها بدعم من رجل الأعمال والد هذه الصديقة ورفاقه من رجال الأعمال، موزعات السلل الغذائية والمساعدات الإغاثية على العائلات التي هددت ظروف اليمن القديمة الجديدة أمنها الغذائي واستقرار عيشها.

مع العمل الخيري طرقت إلهام أبوابًا كثيرة، إحدى المحطات اليمنية في تركيا قبلت بتوظيفها شرط أن تستطيع الوصول إلى تركيا وحدها.

ناديا، صديقة إلهام المنخرطة في الثورة وذات المعارف الكثر والاتصالات لم تخيب أمل صديقتها وساعدتها في تأمين تأشيرة لدخول تركيا، فانطلقت على الفور من صنعاء إلى مأرب "تهريبًا"، تنكرت وتنقبت، فجوازها يحمل صفة صحفية مع تأشيرة إلى تركيا قد يعنيان لبعضهم أنها تنتمي إلى جهة دينية أو سياسية بعينها، في حين أن ذلك بعيد عن الحقيقة.

بعد رحلة ليست بالهينة وصلت المعبر الحدودي مع السعودية لتكتشف أن ورقة جديدة باتت مطلوبة: تأشيرة من الحكومة اليمنية لم تكن بحوزتها، فبقيت 12 ساعة تنتظر في الصحراء، في اللامكان، حيث مبنى المعبر ولا أي شيء آخر، لا مطعم ولا حمام ولا مكان للاستراحة.

رغم التواصل المستمر مع الصديقات اللواتي حاولن المساعدة، بدأ اليأس بالتسرب إلى نفسها لتفكر بالعودة، حتى حالفها حظ بوصول موفد الرئاسة اليمنية إلى المعبر بالصدفة، فشرحت لها وضعها وعملها ومقصدها، فتعاطف معها وأطلع على جواز سفرها بينما كانت إلهام تتذكر دعوات أمها لها: "الله ييسرلك أولاد الحلال يا بنتي"، ليقاطع ذاكرتها صوت مندوب الرئاسة "هذا الاسم ليس غريب علي"، وتتالت الأسئلة: أين تسكنين؟ هل تعرفين فلان؟ ليكتشف أن أهل إلهام هم جيران بيت عمه الذي كان يقضيه وقته عنده خلال دراسته الجامعية.

انتظرا 4 ساعات أخرى حتى تبديل مناوبة الضباط السعوديين، ثم رافقها المندوب وكفلها لتدخل السعودية حيث كانت صعوبات أخرى تنتظر الشابة الصغيرة التي تسافر للمرة الأولى.

لا فنادق للنوم دون محرم، صعوبة في حجز حافلة إلى الرياض دون محرم، اعتراض دورية لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإلهام وصديقتها المقيمة في الرياض بسبب حزام على عباءتها يجعلها -برأيهم- ضيقة تظهر تفاصيل الجسد، طلبوا جوازها التي ذهب مخاوفها باتجاه فقدان الجواز وعدم القدرة على إكمال الرحلة نحو تركيا، وبالتالي خذلان مندوب الرئاسة الذي كفل أنها عابرة طريق لا تريد البقاء في السعودية.

لحسن حظها مر الموقف بخير، وصلت إسطنبول لتفاجئ القناة التي لم يفهم المسؤولون عنها كيف استطاعت هذه الشابة صغيرة العمر ضئيلة الحجم خوض غمار رحلة كهذه للوصول إلى مكان تستطيع فيه تحقيق طموحها المهني.

عملت هناك 5 سنوات ثم انتقلت إلى محطة أخرى حيث بقيت لسنة قبل أن تغادرها بسبب اعتراضها على بعض مواقف المحطة، غادرتها حتى قبل أن تأمن عملًا بديلًا، ليأتي عرض العمل إليها من يمن شباب نفسها، المحطة الأولى التي عملت فيها في الوطن، فعادت إلى محطتها الأولى حتى هذا اليوم.

إلى جانب ذلك، تنشط إلهام في شبكة نساء من أجل اليمن، مجموعة من 9 منظمات يمنية نسوية تناضل من خارج اليمن في سبيل السلام هناك، ودعم حقوق المرأة ومشاركتها في العملية السياسية والمفاوضات، نشاط مدعوم من الأمم المتحدة.

تساهم كذلك كمسؤولة الإعلام والعلاقات العامة في الجالية اليمنية في تركيا التي تكاد تلعب دورًا يوازي دور سفارة بلادهم غير المفعلة في هذا البلد لأسباب سياسية، فتساهم في حل مشاكل اليمنيين وتساعدهم بدورات يحتاجونها وتنظم لهم كجمعية مرخصة في تركيا لقاءات ورحلات.

تختصر إلهام هذه الجالية المقدرة بـ 50 ألف يمني بثلاث فئات رئيسية: رجال الأعمال من أصحاب رؤوس الأموال، وأسر اليمنيين العاملين كموظفين متوسطين في السعودية، والطلاب.

لا احصائيات رسمية عن أعداد اليمنيين خارج اليمن، لكن هناك تقديرات غير رسمية تفيد بأن أعدادهم في شرق آسيا والخليج وأوروبا وأميركا وأفريقيا يقدر بـ 6 ملايين يمني، في حين تقول وزارة المغتربين في الحكومة اليمنية أن عدد اليمنيين خارج البلاد يتجاوز 7 ملايين، إذ تضاعفت الأرقام خلال الحرب الأخيرة.

ليس من الشائع التعامل مع اليمنيين في الخارج بوصفهم لاجئين، بقدر ما يجري اعتبارهم مهاجرين أو مقيمين بشكل مؤقت كرجال أعمال وتجار، وعمال وطلاب، وفي حين تجمع الجنسية الواحدة والمعاناة اليمنيين في البلدان التي يعيشون فيها، إلا أن الحرب والانقسام السياسي الذي تشهده البلاد بين أنصار الحكومة والحوثيين ينعكس على الجاليات اليمنية التي تنقسم على النحو نفسه.

زارت إلهام أهلها في اليمن متخفية مرة واحدة خلال 7 سنوات، الأمر الذي تراه متعبًا ومرهقًا لها على الصعيد النفسي، لكنها لا تزال تحمل الأمل بالعودة، "أنا لست لاجئة، أنا مهاجرة إلى حين، حتى لو سنحت لي الفرصة بالانتقال إلى أوروبا، ستبقى مكانًا مؤقتًا، لدينا الأمل بأن بلادنا سوف تعود وسأرجع إليها، لا تركيا ولا أوروبا، اليمن هو محطتي الأخيرة".

أنا لست لاجئة، أنا مهاجرة إلى حين، حتى لو سنحت لي الفرصة بالانتقال إلى أوروبا، ستبقى مكانًا مؤقتًا، لدينا الأمل بأن بلادنا سوف تعود وسأرجع إليها، لا تركيا ولا أوروبا، اليمن هو محطتي الأخيرة