في حلب، وغازي عنتاب، وحفل الأوسكار...
ريم سورية تزهر أينما وجدت

في حلب، وغازي عنتاب، وحفل الأوسكار... ريم سورية تزهر أينما وجدت

في حلب المنهكة والتي تتعرض لتحولات عديدة حينها ولدت سنة 1987 بطلة هذه القصة لمهندسين يعملان في مكتبهما الخاص، ثالثة أطفال العائلة بعد صبي وبنت. ومنذ عمر صغير، 5 سنوات، بدا أن "الجينات الفنية" للعائلة قد وجدت مستقرًا لها في الطفلة، فجدها لأمها فنان تشكيلي ينحدر من الميادين، أحب الفن منذ صغره وطلب من والده المزارع أن يرسله إلى إيطاليا لدراسة الفن، ما كان يعتبر ضربًا من الجنون حينها، ولكنه فعلها، درس الفن في إيطاليا وعاد إلى حلب ليستقر فيها مع زواجه حيث أقام معارض كثيرة، وأسس مركز الفنون التشكيلية وكان أول مديريه.

موهبة ريم كانت محط انتباه والدتها سوسن، فاهتمت برعايتها وتوفير ما يلزمها من دورات وأدوات وألوان، وتطور الأمر لتصبح المراهقة تقضي جزءًا لا يستهان به من يوم عطلتها الوحيد الجمعة في مراسم رفاق جدها لتتعلم عن يدهم فنونًا مختلفة وأساليب متنوعة، من الرصاص إلى المائي والزيتي الأقرب إلى قلبها، ومالت إلى الفن التجريدي الذي يقدم شخوصًا ومواقف وحالات واضحة الرسائل على الرغم من غياب الملامح الشخصية عنها، فن تمارسه إلى اليوم في زاوية من منزلها حولتها إلى مرسم صغير.

فكرت الشابة بأن تنتقل إلى دمشق حيث خالها لتدرس في كلية الفنون الجميلة هناك، الأمر الذي تهيبه أهلها بعض الشيء على من كان في عمر ريم، في حين أن خيارًا آخر لم يكن متاحًا. تدخل القدر ليفتح بابًا لم يكن في الحسبان مع افتتاح كلية الفنون الجميلة في مدينتها حلب لتكون هي من طلاب دفعتها الأولى سنة 2006.

لتعديل طارئ في شروط القبول اضطرت ريم لأن تدخل التعليم الموازي، وهو تعليم في الكلية نفسها التابعة للجامعة الحكومية، ولكنه مدفوع، ورسومه ليست في متناول الجميع، وإن كان الطلاب الثلاثة الأول فيه يكافؤون باستعادة الرسوم التي دفعوها. وكان شرط والدها هو التالي: إن كنت من الأوائل واستعدتِ الرسوم التي أدفعها، فهي من حقكِ أنتِ، وهذا ما كان، فلم تخيب الفنانة الشابة أمل والدها.

انتهت السنة الجامعية الأولى التي تتضمن مقررات عامة كمدخل لتخصصات تأتي في السنوات اللاحقة، وبدأ نقاش جديد مشابه لنقاش جرى قبلها بعام، فأي تخصص ستختار؟ ديكور، نحت، دعاية وإعلان، تصوير... إلخ خيارات مختلفة لكل واحد ما يقربه من قلب ريم وما ينفرها منه، حتى تدخلت الأقدار مجددًا مع افتتاح تخصص في تصميم الأزياء لم يكن متوفرًا حتى في دمشق، بدا وكأنه الحل السحري للصراع الذي كانت الطالبة الشابة تمر فيه.

انكبت على الدراسة بشغف شجعتها عليه معيدة روسية كانت تعطي طلابها بكل طاقتها وتدرس المقرر بشغف، واحدة من الأساتذة الذي يتركون أثرًا دائمًا لدى طلابهم، وصولًا إلى سنة التخرج سنة 2010 ومشروعها عن أزياء "السيدات الأول" مستوحاة من أعماق البحر، فأتت بأقمشة رسمتها يدويًا ولونتها بألوان بحرية كأزرق المياه وأحمر المرجان... تذكر اللحظة حتى اليوم بعد 12 سنة، كيف طلب واحد من لجنة التحكيم أن يلتقط صورة له معها "صورة قبل أن تصيري مشهورة، سأذكركِ بها يومًا". تستعيد ريم لحظة التخرج، تصفها بأنها "من أجمل اللحظات حيث الشعور بالإنجاز، الإنجاز بقوة وباعتراف من ممن هم حولك".

تذكر اللحظة حتى اليوم بعد 12 سنة، كيف طلب واحد من لجنة التحكيم أن يلتقط صورة له معها "صورة قبل أن تصيري مشهورة، سأذكركِ بها يومًا". تستعيد ريم لحظة التخرج، تصفها بأنها "من أجمل اللحظات حيث الشعور بالإنجاز، الإنجاز بقوة وباعتراف من ممن هم حولك".

خطوة أخرى مهمة أقدمت عليها بالزواج بعد التخرج لتعيش شهورًا هادئة قبل أن تبدأ صفحة جديدة من تاريخ سوريا مع آذار 2011 موعد انطلاق الثورة على النظام السوري، حيث كان مجرد تعبيرها وزوجها حينها عن رأيهما سببًا لتلقي التهديدات والرسائل المتوعدة، التي لم تثنيهما عن بعض الأنشطة كالمشاركة في المظاهرات وبعض العمل الإسعافي المتعلق بتأمين الأدوية لجرحى ومصابي نيران قوات الأمن في المظاهرات، ولكن عوامل مختلفة تضافرت سنة 2012 دافعة العائلة الصغيرة إلى خطوة انتقالية.

كان منزل الأسرة قريبًا من مقر فرع أمني شهير، مركز لاستهداف الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السوري بالقصف الذي كانت أصواته تهز المنزل ليل نهار، واعتقال زوج ريم ليوم بسبب نشاطه، والابنة الوليدة للعائلة قبل شهر، كلها دفعت لاتخاذ القرار: الانتقال إلى غازي عنتاب في تركيا، على المقلب الآخر للحدود، كانت منطقتهم آمنة نسبيًا، ولكن الجو العام والتهديدات دفعت نحو هذا القرار، "بضعة أسابيع ريثما تهدأ الأمور ونعود"، كما كان لسان حال ألوف من العائلات السورية التي لم تدرك أن رحلتها المخطط لها أن تكون قصيرة هذه ستكون رحلة أبدية لا عودة فيها أو تكاد.

كانت منطقتهم آمنة نسبيًا، ولكن الجو العام والتهديدات دفعت نحو هذا القرار، "بضعة أسابيع ريثما تهدأ الأمور ونعود"، كما كان لسان حال ألوف من العائلات السورية التي لم تدرك أن رحلتها المخطط لها أن تكون قصيرة هذه ستكون رحلة أبدية لا عودة فيها أو تكاد.

يوم الانطلاق من حلب استيقظوا على صوت انفجار مهول، البيت يعج بالغبار والمطبخ شبه منهار. تطلب الأمر بضعة دقائق لاستدراك أن قذيفة لم تصب المنزل، بل هو أثر انطلاق قذائف ثقيلة من المقر الأمني المجاور لا أكثر! حادث أجل السفر ليوم وأكد الشعور بأنه القرار الصائب وقتها.

في غازي عنتاب لم تستطع ريم المعتادة على النشاط الدائم أن تبقى دون عمل فتطوعت لمساعدة بعض الجمعيات والمنظمات السورية هناك من خلال عملها في التصميم على الكومبيوتر من المنزل على قدر استطاعتها، انقضت أربعة أشهر ومع مطلع سنة 2013 عاد الحديث عن العودة إلى حلب، حتى جاء يوم 15 كانون الثاني/يناير، قبيل الواحدة ظهرًا حادثت والدتها في حلب التي كانت ستنطلق في زيارة لقريبتها، أنهيتا المكالمة وذهبت ريم لتأدية صلاتها، أنهتها وعلمت من هاتفها بخبر قصف كلية هندسة العمارة في جامعة حلب، "شعرت على الفور بأن الأمر قد انتهى، أعرف أين منزل أهلي قرب الكلية، ووجهة أمي، لم أكن بحاجة إلى تأكيد"... محاولات هاتفية عديدة دون نتيجة حتى أكد شقيقها الخبر من براد المستشفى الجامعي، شظية اخترقت باب السيارة وأصابت القلب مباشرة، حاول أحدهم إسعاف الوالدة في سيارتها دون نتيجة.

"شعرت على الفور بأن الأمر قد انتهى، أعرف أين منزل أهلي قرب الكلية، ووجهة أمي، لم أكن بحاجة إلى تأكيد"... محاولات هاتفية عديدة دون نتيجة حتى أكد شقيقها الخبر من براد المستشفى الجامعي، شظية اخترقت باب السيارة وأصابت القلب مباشرة، حاول أحدهم إسعاف الوالدة في سيارتها دون نتيجة.

يوم لن ينساه كثيرون في حلب، حين شاهد المئات طائرة النظام السوري تقصف كلية جامعية لا تضم غير الطلاب والأساتذة، قيل عن طريق الخطأ، وجرى نشر روايات مضللة كثيرة لتمييع الحقيقة، أكثر من 80 قتيلًا ومئات من الجرحى، كان اليوم الأصعب في حياة ريم.

اتخذت على الفور قرار الذهاب إلى حلب رغم خطر اعتقالها، وصلت بعد عناء، كانوا قد أخروا صلاة الجنازة حتى وصولها، جاء رجال أمن كأنهم ذاهبون إلى معركة مدججون بسلاحهم وجعبهم العسكرية من الفرع الأمني الأسوأ سمعة ليقوموا بواجب التعزية! مضايقات كثيرة ورسائل تهديد للشابة المكلومة التي كانت في بداية حملها الثاني. 13 يومًا غادرت بعدها حلب للمرة الأخيرة ولم تطأ أرضها بعد ذلك.

كانت السنتان التاليتان صعبتين على الصعيد النفسي، موت والدتها المفاجئ والحمل والولادة وكل ظروف الحياة وأخبار الموت والقمع في الوطن. أجبرت نفسها على العمل التطوعي لتخرج من دائرة الضغط النفسي، فتطوعت وعملت مع منظمات سورية ودولية مختلفة، حتى أدركت بعد سنوات أنها مستقرة حيث هي، وأن شهادتها الجامعية ما تزال في يدها، فأطلقت على أساس حاجاتها كأم دارًا لحضانة أطفال الأمهات العاملات مزودة بنظام كان غير مألوف يتيح لكل أم متابعة طفلها ونشاطه عن طريق الكاميرات التي تنقل عبر الإنترنت حركة الدار إلى الأمهات.

ساهم هذا المشروع في سد حاجة ضرورية وأمن فرص عمل لشابات سوريات كن القيمات على الدار تحت إشراف ريم التي تهتم بعمل آخر، استمر لأربع سنوات ثم بادرت إلى إغلاقه لتنطلق إلى مشاريع أخرى إذ شاركت في مشروع مقهى محلي مع شريك سوري وآخر تركي، وأطلقت مشروع دانتيل، شركة مرخصة لتنظيم الحفلات والمناسبات والمؤتمرات وتأمين متطلباتها من أدوات وزينة ومعدات، لم يقتصر نشاط دانتيل على غازي عنتاب بل تعداها إلى مدن تركية أخرى كمرسين وحتى إسطنبول.

لم تغادر ذاكرتها أيام حلب حين صممت عباءات شرقية مطرزة يدويًا بالأحرف العربية التي كانت مغرمة بها، ولاقت رواجًا غير متوقع حتى أتتها طلبات شراء من الدانمارك وبلجيكا حينها، ولكن اليوم في غازي عنتاب المنافسة شديدة الصعوبة في مدينة متقدمة في صناعات الثياب والأقمشة، وعلى الرغم من ذلك صممت وصنعت بضع نماذج للمشاركة في معارض خارجية دون نشاط تجاري جدي.

في سنة 2020 اتصلت صديقة ريم بها من بريطانيا، وعد الخطيب مخرجة فيلم "من أجل سما"، لتخبرها: "فيلمنا يكاد أن يترشح للأوسكار، أريد منكِ تصميم فستان مناسب لي لأشارك في المناسبة، لديكِ 12 يوم لا غير!".

بدأت في رسم "الاسكتشات" أو التصميمات المبدئية، "نريد تصميمًا فيه رسالة مكتوبة باللغة العربية"، طال الاهتمام أدق التفاصيل، حتى لون خيط تطريز الأحرف استوحي من لون نبتة "المجنونة" التي كانت في حديقة منزل وعد في حلب، ولون القماش متناسب مع لون بشرة وعد. سخرت ريم كل علاقاتها في غازي عنتاب لإتمام المهمة من تفصيل وتطريز، وجرى الامر في سباق مع الزمن دون أخذ قياسات وعد وإجراء التجارب أونلاين!

نجحت المهمة المستحيلة ووصل الفستان من غازي عنتاب إلى إسطنبول فبريطانيا وأخيرًا أميركا قبل الأوسكار بيوم، لم تصدق وعد جمال الفستان الذي لم يبدُ كذلك في الصور التي وصلتها قبلًا من ريم، تطلب تعديًلاً طفيفًا على القياس أجراه خياط محلي قرب الفندق، وسهرت صاحبة التصميم منتظرة حفل الأوسكار لترى صديقتها في الفستان المزين بالجملة المختارة: "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة".

لم ينل الفيلم للأسف الأوسكار، ولكن الفستان لفت الأنظار وأوصل الرسالة، ولم تصدق مصممة الفستان كم الصور والإشارة إلى الثوب ومصممته عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات الراديو والتلفزيون، "لم أكن أتخيل 1% مما حصل".  

تحاول ريم اليوم العمل على إنتاج تصميمات سورية من أقمشة تركية مشهورة، دامجة بين طرفي الحدود القريبة من غازي عنتاب، وتتعاون مع مصممين وحرفيين وخياطين وأصحاب ورشات أتراك للوصول إلى مبتغاها.

بعيدًا عن التأثيرات السلبية لموجات اللاجئين على أسواق العمل والاقتصاد والتي تظهر على المدى القصير لكنها تترك انطباعًا أطول عمرًا، انتقل السوريون في تركيا في جزء كبير منهم ليشكلوا رافعة إيجابية للاقتصاد التركي، فبين سنتي 2011 و2020 أسس في تركيا أكثر من 10.000 شركة سورية مرخصة، أمنت عشرات فرص العمل للاجئين السوريين والمواطنين الأتراك على حد سواء، وحتى نهاية عام 2017 كان في تركيا 4793 شركة سورية برأسمال يقارب 40 مليون يورو، في حين بلغت صادرات رجال الأعمال السوريين في غازي عنتاب خلال سنة 2021 ما قيمته 500 مليون دولار تشكل 10% من صادرات المدينة.

تؤكد ريم على ضرورة التعاون مع المواطنين الأتراك من أصحاب الخبرات التي تكمل خبرة السوريين، للوصول إلى شراكة ناجحة تعود بالفائدة على الطرفين الأمر الذي تحاول فعله سواء من خلال مشروع المقهى أو المشاريع المتعلقة بالأزياء وشغفها بالموضة، ومهما كانت الظروف، وعلى الرغم من كل الصعوبات الماضية التي تركت أثرًا لا يمحى، تعيش ريم في حياتها ما تقوله عن السوريين، "يعملون بكل طاقتهم لكي يثبتوا أنفسهم ولا يكونوا عالة على أحد"، مطبقة الجملة التي قالتها لها والدتها قبيل وفاتها بأيام حين كانت ريم متعبة يائسة، جملة نقلتها تطريزًا على فستان أسود أنيق: "أينما أنبتك الله أزهر".

وعلى الرغم من كل الصعوبات الماضية التي تركت أثرًا لا يمحى، تعيش ريم في حياتها ما تقوله عن السوريين، "يعملون بكل طاقتهم لكي يثبتوا أنفسهم ولا يكونوا عالة على أحد"، مطبقة الجملة التي قالتها لها والدتها قبيل وفاتها بأيام حين كانت ريم متعبة يائسة، جملة نقلتها تطريزًا على فستان أسود أنيق: "أينما أنبتك الله أزهر".