من اليمن فالصومال ثم مصر، هبة الله التي تحققت يحيى

من اليمن فالصومال ثم مصر، هبة الله التي تحققت يحيى

في مقهى مقام في شقة أرضية ضمن مبنى قديم ما زال سحره حاضرًا في حي الزمالك، كان يحيى ينتظر، أحد أنواع القهوة ولابتوب، يستقبل محاوره بسكينة وترحاب، دون أن تفلح محاولاته في إخفاء كامل تعابير الحزن عن وجهه.

ولد يحيى، على هيئة طفلة جميلة، تحمل اسم هبة الله، سنة 1997 في سانت بطرسبرغ الروسية لأب يمني وأم صومالية يمنية كانا يدرسان الطب البشري هناك، أنجبا بعدها أختًا لها وأكملا دراستيهما وعادوا إلى تعز قبل أن يستقروا في صنعاء ليعملا كطبيبين.

ولد يحيى، على هيئة طفلة جميلة، تحمل اسم هبة الله، سنة 1997 في سانت بطرسبرغ الروسية لأب يمني وأم صومالية يمنية كانا يدرسان الطب البشري هناك

دخلت هبة الله مدرسة خاصة تديرها قريبة للعائلة فتمتعت بمعاملة خاصة تجاوزت عن شغبها بين الحين والآخر، وكانت ذات شعبية في المدرسة، "لم أعِ ذلك فورًا، ربما لأن صداقاتي كانت كثيرة، شعرت بالعزلة أول الأمر ثم سريعًا ما تماهيت"، ولكن هذه الحال لم تستمر إذ انتقلت إلى مدرسة جديدة تعرضت فيها للتنمر. لا تلوم الآخرين بقدر ما تحاول إيجاد العذر لهم: "بيئة جديدة لم تعتد علي بعد"، ولكن التنمر والتعليقات التي تضمنته جعلتها تستوعب أنها مختلفة، "تعليقاتهم جعلتني أركز على نفسي وأستوعب أثر وجود الفروقات وأنني غير قادرة على الاندماج في المجتمع الأنثوي"، فبعد أن كانت صداقاتها في المدرسة الأولى محصورة بالفتيات فقط، تغير هذا الأمر رويدًا رويدًا في المدرسة الثانية.

"بيئة جديدة لم تعتد علي بعد"، ولكن التنمر والتعليقات التي تضمنته جعلتها تستوعب أنها مختلفة، "تعليقاتهم جعلتني أركز على نفسي وأستوعب أثر وجود الفروقات وأنني غير قادرة على الاندماج في المجتمع الأنثوي"

في المرحلة الثانوية بدأت هبة الله تركز على ما يفرقها عن الآخرين، اختلافها، ازدادت شجاعتها لتظهر نفسها أكثر للمجتمع، وعلى عكس ما يراه كثيرون أن المراهقة جنون، رأتها هبة الله مرحلة ثورية، ولكن ما لبث أن تسلل إلى نفسها عدم تقبل ذاتها، ربما على نحو أكثر من السابق حين كانت أكثر انشغالًا وأقل وعيًا باختلافها.

اعتقدت أن لدى أبيها مشاكل نفسية، لديه صورة متزنة خارج المنزل لكن شخصيته الحقيقية المليئة بالاضطرابات بحسب وصف هبة الله تظهر داخل جدران المنزل من خلال العنف والشك. لأسباب كثيرة، منها انشغال والديها بعملهما وخلافاتهما الزوجية، ترعرعت هبة الله على يد جدتها لأمها، الجدة المنحدرة من أب يمني وأم هندية. لم يكن الوالدان يظهران شعورهما بما تمر به ابنتهما، أو على الأقل، لا مشكلة في ذلك ما زال الأمر لا يسبب مشكلة مع "العالم الخارجي".

خلال الصف الثاني الثانوي أجبر والدا هبة الله ابنتهما على خطبة ابن عمها، رفض والدها لاحقًا أي محاولات لفسخ هذه الخطوة، انتهت الدراسة الثانوية ودخلت هبة الله سنة 2014 كوالديها كلية الطب في اليمن، لكن الحرب أتت ودفعت العائلة للسفر إلى الصومال، هرجيسا، صومالي لاند حيث تابعت الدراسة، ومن هناك اقنعت هبة الله ابن عمها بفسخ الخطوبة.

هناك، تبلورت هوية هبة الله الجندرية، أو بالأحرى ثمة قرار قد اتخذ، ولكن كان هناك رأي آخر لأم هبة الله التي أصبحت يحيى، فحبسته في مصحة نفسية لمنعه من إكمال عملية العبور الجنسي، "كانت خائفة من سفري، من أن تخسرني". مصحة خاصة وحكم بالوصاية على اعتبار أني فاقد الأهلية، هذه كانت وصفة الأم الطبيبة للتعامل مع مخاوفها ووضع ابنها. أما يحيى، فشعر حينها بالكره تجاه أمه، أجبروه على أدوية وهرمونات، أجبر عليها لمدة سنتين تحت تهديد العودة إلى المصحة التي أخرج منها.

هناك، تبلورت هوية هبة الله الجندرية، أو بالأحرى ثمة قرار قد اتخذ، ولكن كان هناك رأي آخر لأم هبة الله التي أصبحت يحيى، فحبسته في مصحة نفسية لمنعه من إكمال عملية العبور الجنسي، "كانت خائفة من سفري، من أن تخسرني". مصحة خاصة وحكم بالوصاية على اعتبار أني فاقد الأهلية، هذه كانت وصفة الأم الطبيبة للتعامل مع مخاوفها ووضع ابنها

في الواقع لا يحتاج الأمر إلى كثير معرفة لإدراك سوء واقع مجتمع الميم بشكل عام، والعابرون جنسيًا بشكل خاص في العالم العربي، فمع غياب حريات أساسية وتصاعد الديكتاتوريات والتطرف الديني، يزداد الاضطهاد بحق العابرين والتضييق عليهم، إلى درجة يصعب معها الوصول إلى إحصائيات تخص هذه القضية.

لكن الاطلاع على إحصائيات دول أخرى قد تعطي بدورها فكرة عن واقع هذه الفئة، ففي سؤال مثل: ما هي ردة فعلك إذا كان ابنك أو أخوك أو أختك أو أحد أفراد أسرتك المقربين قد أصبح متحولًا جنسيًا؟ جاءت الإجابات في فرنسا 18% داعم جدًا، و28% داعم بشكل ما، و27% غير داعم. أما في أميركا فقد كانت نسبة غير الداعمين 22%، 32% في ألمانيا، 29% في إيطاليا.

عدم توفر إحصائيات منشورة أو دقيقة عن الوضع في العالم العربي لا يلغي وجود قضية المتحولين والمتحولات جنسيًا التي تتأثر علنيتها سلبًا بالقوانين السائدة والسلطات الديكتاتورية والدينية المسيطرة.

في سنة 2018، بعد مشاكل كثيرة في الجامعة بسبب قضية المصحة، حاول يحيى بمساعدة صديقات صوماليات الهرب إلى اليمن، لم يعد قادرًا على تحمل الحياة في الصومال تحت وصاية أمه، وصل السفينة دون أوراق ثبوتية، دخلها بتدبير من خال صديقته الصومالية، "وتعاطف مع قصتي القبطان ولم يخبر سلطات الميناء، واستطاع التواصل مع والدي الذي كان في اليمن حينها"، ولكن شبه الصدفة سمحت ليمني من معارف والدة يحيى بأن يراه على السفينة، كبله بقصد نقله إلى المصحة لكن القبطان تدخل وطرد اليمني.

علمت الأم، وبتدخل من ابن عمها محافظ بربرة حيث الميناء، جاءت برفقته وبعض الجنود لاقتياد يحيى قبيل مغادرة السفينة الميناء، "ولم تنفع محاولات القبطان لحمايتي أمام التهديد بحجز السفينة"، "فقدت الأمل تمامًا ورجعت مع أمي وابن عمها متوقعًا الحبس مرة ثانية، وأصبت بانهيار عصبي".

تواصل والد يحيى مع الجالية اليمنية الكبيرة في الصومال، والمستشفى التي تعمل فيه زوجته للضغط عليها من أجل يحيى، فشعرت هي بفقدانها السيطرة ثم ما لبثت أن استسلمت للأمر الواقع وعاد يحيى بعد أسبوعين مع القبطان عينه إلى الحديدة في اليمن حيث يعمل والده.

سرعان ما انفجرت المعارك فانتقلا، يحيى ووالده، إلى صنعاء حيث بدأت عوارض ما بعد الصدمة بالظهور على يحيى، "شعرت بأن أبي الذي كنت أراه فاشلًا قد صار منقذي". شعر يحيى بحاجته إلى مصحة ولكن خبرته السابقة عززت خوفه من التجربة، "فهمت أن ما واجهته بحاجة معالجة طويلة... لم يتح لي الظرف المناسب للتعامل مع كل ما حصلي لي قبلًا".

فكر يحيى باستكمال دراسته لكن والده ماطل في تحقيق ذلك ومنع عنه الكثير من التواصل وحرية الحركة بسبب ضغوطات الوالدة، فبرأيها، المجتمع "سيلعب في عقل ابنتها، وسيعيد لها أفكار العبور"، كانت تراه مرضًا عابرًا، شعر يحيى أن مشكلته الحقيقة أن أهله أطباء ذوو سلطة طبية يعالجون الأمور بالهرمونات والعلاج النفسي.

منع عنه والده الكثير من التواصل وحرية الحركة بسبب ضغوطات الوالدة، فبرأيها، المجتمع "سيلعب في عقل ابنتها، وسيعيد لها أفكار العبور"، كانت تراه مرضًا عابرًا، شعر يحيى أن مشكلته الحقيقة أن أهله أطباء ذوو سلطة طبية يعالجون الأمور بالهرمونات والعلاج النفسي

مرة أخرى فقد يحيى الأمل وكاد ينهار لولا دعم أصدقائه منذ 2015 "أونلاين"، عابرون من حول العالم، قدموا كل ما استطاعوا من دعم وتكافل ورفع لوعي يحيى، "كانت لدي شبكاتي القوية حول العالم"، عرفوا بكل ما حصل ويحصل مع صديقهم، وقرروا أنهم لن ينتظروا مرة أخرى كي تتكرر قضية المصحة حيث لا يمكن لهم الوصول إليه ومساعدته، وصار من الواضح أن الوالد لن يدخل ابنه الجامعة من جديد، فانطلق يحيى إلى تويتر وأنشأ صفحته على موقع Go Fund Me لتوفير كلفة الأوراق الرسمية والسفر. "بدأت أروي قصتي على العلن دون وجل"، تواصل أعمام يحيى شديدو المحافظة مع والده مرسلين له رابط تصريحات ابنه، "أش هاذ! كسرت شرف العيلة وشوهت صورتها". قُطع الإنترنت عن يحيى الذي حبس نفسه في غرفته متلقيًا شتائم والده الذي اعتبر أن ما حدث هو "آخرة الثقة والدلع". شعر يحيى أن والده سيقتله ولو أنه ليس بالجرأة الكافية للقيام بذلك، "هو مجبر على أمر إن لم يفعله لفعله غيره"، لربما كان ينتظر أحدًا آخر ليقوم بالمهمة. أفضل سيناريو بالنسبة ليحيى الذي لم يكن يستوعب ما يحصل تمامًا، كان شديد السوء.

شعر يحيى أن والده سيقتله ولو أنه ليس بالجرأة الكافية للقيام بذلك، "هو مجبر على أمر إن لم يفعله لفعله غيره"، لربما كان ينتظر أحدًا آخر ليقوم بالمهمة. أفضل سيناريو بالنسبة ليحيى الذي لم يكن يستوعب ما يحصل تمامًا، كان شديد السوء

تشير تقديرات إلى أن 0.56٪ من البالغين في الولايات المتحدة (560 لكل 100.000) يعرفون أنهم متحولون جنسيًا. ترتفع هذه النسبة مع انخفاض عمر الشريحة المستهدفة وتقدم الزمن.

3 أيام حبيس غرفته رفقة أخت زوجة أبيه ذات الـ 17 عامًا التي اطمأن يحيى إلى أنها ستكون شاهدة له وأن وجودها يحميه مما قد يقدم عليه والده. قرر القفز من الطابق الثالث والهرب، ولكنه تمكن من الخروج بوسيلة أأمن بمساعدة رفيقته في الغرفة، خرج من المنزل ليعيش مطاردات وتهديدات وتعقبات، هرب يوم 17 أوغسطس 2019، ولم يتمكن من وصل بر أمان نسبي مؤقت في مصر حتى مارس 2020.

واجه مشاكل متعددة كلاجئ هناك، "لكني انتصرت في معركة على الرغم من أن الحرب لم تنته بعد، انتصرت بالخروج والعبور والبقاء حيًا، الخروج من حلقات مجتمعية والظهور بهويتي الحقيقية".

يطمح يحيى بالحصول على حق أساسي من حقوق الإنسان: أن يعيش بأمان. هذا غير ممكن حيث هو، فكر بحلمه منذ الطفولة البعيدة: أستراليا، تثير اعجابه وتتوفر فيها فرص استكمال الدراسة. ينتظر اليوم مساعدة منظمة أسترالية ومحامية هناك لإنقاذه هو وشريكه، ويقضي وقته في التطوع والدراسة أونلاين حول أمور متعلقة بحقوق الإنسان والناشطية، والقوانين المتعلقة بالمحاسبة العدلية.

لماذا "يحيى"؟! "كل بكور العائلة على اسم الجد الذي يحمل هذا الاسم، لو ولدت جسديًا كذكر لكان هذا اسمي، يحيى، تعبير عن حقي وأملي، أن أحيا، كما أنا على حقيقتي، كما أريد".

لماذا "يحيى"؟! "كل بكور العائلة على اسم الجد الذي يحمل هذا الاسم، لو ولدت جسديًا كذكر لكان هذا اسمي، يحيى، تعبير عن حقي وأملي، أن أحيا، كما أنا على حقيقتي، كما أريد".